rane bella Admin
عدد المساهمات : 390 السٌّمعَة : 1 تاريخ التسجيل : 15/03/2010 العمر : 29
| موضوع: خبز الموتى الثلاثاء مارس 23, 2010 2:31 pm | |
| 2 ـ خبز الموتى
ترتسم خيالات مبهمة بينما عارف يضيء الشّمعة الثانية تستبين العين منها موكب جنازة لا يمحى من الذاكرة يسطع من فوق هذه الخيالات رغيف خبز كأنه القمر.
فقالت سيدة الفنتازيا: حسناً لديك الآن صينية الزهرة التي تمثل جسدك القديم. وصينية الشموع التي تشكل جسدك الجديد. وكلما أضأت شمعة انزاح حجر من البناء القديم وتشكل في موضعه ما يشكل جزءاً من الولادة الجديدة.
فتدخلت المجذوبة وهي تقول: كنا بصينية الشموع وصرنا بصينية الزهرة وأحجارها. أنا لا أفهم رموزك ورموزه يا ست. وقالت: المهم أن عارف لم ينزل من الجبل إلا بعد أن استنجدت أمه بحميد صديقه الذي أقنعه بأن أمه بحاجة إليه وإلا فاضت روحها. فنزل معه وحين بلغا مدخل الحارة أبصرا موكب جنازة فقال عارف لحميد:
ـ أكاد أموت من الجوع، هيا إلى البساتين، نستطيع أن نأخذ من أشجارها فاكهة تشبع بطوننا.
ـ الفواكه وحدها لا تسد الجوع الذي نحن فيه. لابدّ من طعام صلب يملأ هذه المعد الخاوية، بنفسي شيء من اللحم.
ـ ومن أين لنا الفلوس كي نشتري هذا اللحم؟
ـ قال: انظر، الأمر بسيط هذه جنازة، دخل المشيعون إلى المسجد للصلاة على الميت.
ـ ماذا تعني؟ أو تأكل من خبز الموتى؟!
ـ إنها ولا شك جنازة لرجل غني. انظر دفوف الآس، وأكاليل الورد. ألا ينبئك ذلك بشيء؟!
ـ هذا لا يحل مسألة الجوع إلى اللحم الذي نحن فيه، خبز الأحياء خير من خبز الموتى.
ـ ثم انظر إلى الفروش الكثيرة التي تصاحب الجنازة، كم أشتهي أن أموت مثل هذه الميتة. إن شكل الجنازة وطقسها صار من مخلفات الأيام الخوالي.
ـ خفيف دمك يا حميد.
ـ كلها موتة. المهم أن تموت وأنت مليء البطن مرتاح البال. عند ذلك تستقبل الموت بشكل أكثر راحة.
ـ لا لا موتة عن موتة تفرق. اليوم يموت الناس بسرعة. المشيعون يركبون السيارات، وشيخ الجنازة يردد الأدعية من مذياع يصرخ بدون حنان.. وينتقي أهل الميت أقرب مسجد إلى المقبرة فلا يسير موكب الجنازة إلا خطوات معدودة، بينما في الأمس حين كان الناس يعتمدون على أرجلهم كانت الجنازة أكثر بهاءً وأروع موكباً.
حاملو دفوف الآس في المقدمة لخضرته الدائمة علامة على الرحمة، وحاملو أكاليل الورد، وحاملوا أفراش الملح والزبيب والتمر والخبز لتفريقها على الفقراء.
وحاملو النعش الذين يتناوبون على حمل التابوت، لاسيما من أقرباء الميت وأصدقائه، فبذاك يكسبون الأجر من الله سبحانه وتعالى.
ومن ثم أهل الميت وأقرباؤه وأصدقاؤه، كلهم يمشون في موكب مهيب ليودعوا الراحل إلى مثواه الأخير. الموت كان أبطأ في الماضي، إنه الآن أسرع من الرصاصة.
ـ لقد أصبحت فيلسوفاً يا حميد وعلى معدة فارغة. كيف يخطفك التأمل من مرارة الجوع؟
ـ لو فكر الفلاسفة على معد ملآنة لما خرجوا علينا بتلك الآراء العميقة. المهم تعال، وأخذ يوشوشه حتى لا يسمعه بعض المشيعين الذين كانوا يقفون على باب المسجد..
فابتسما ابتسامة مراوغة وجاءا إلى أصحاب الفروش واتفقا معهم على أن يدلقوا ما في الفروش في أحضانهما حالما يصرخ شيخ الجنازة "عظم الله أجركم" علامة انتهاء موكب الجنازة وبدء تفريق ما في الفروش على الفقراء والمساكين.
حاذى كل من عارف وحميد حامل فرش بعينه، وحين انتهى الجميع من الصلاة على الميت، اتجهت الجنازة في موكبها إلى المقبرة. وحين دخل المشيعون وتحلقوا حول القبر الفاتح فاه، والحفارون ينتظرون أن يتموا عملهم بوضع الميت في اللحد، وصفّ البلاطات على طرفيه، وردمه بالتراب. يصرخ شيخ الجنازة: سامحوه يا إخواننا، سامحوه واقرؤوا الفاتحة على روحه الفاتحة. فيقرأ الناس الفاتحة على روح الميت. وحالما صرخ الشيخ "عظم الله أجركم" دلق كل من حاملي الفرشين محتواهما وأمامهما كل من حميد وعارف قد رفعا قمبازيهما ليحتويا ما يدلق من الفرش في حضنيهما حسبما اتفقا عليه. وحين تم ذلك ذهبوا جميعاً إلى خلف جدار سور المقبرة وتقاسموا الرزق، ومضى كل في سبيله، الأموات يتقاسمون خبز الموتى والأحياء يتقاسمون الخبز الحي. إلاَّ أن عارف وحميد أكلا شيئاً من الخبز والتمر، وباعا ما تبقى منهما بقروش زهيدة، واشتريا شيئاً من اللحم، ليسكتا صراخ الجوع الكافر الذي كان ينبعث من الجوف!!!
بعد أن فارق عارف نقاوة الجبل. ملأ بطنه من زكاة الموتى. كيف يحمل معه نقاء هذا الجبل إلى المدينة بعد أن أكل خبز الموتى تتكهن السيدة وتقول للمجذوبة: مشكلة عارف ربما تكون كيف يحتفظ بنقاء الشيخ "جزّو" وينغمس في العالم وتراب الأرض؟!.
أو ربما هي كيف فقد نقاء "جزّو" حين انغمس في الدنيا يحاول أن يخرج من طين العالم، أن يتشبث بنقاء ضاع ونهر انقطع، لذلك يدخل في طقس النار ويغازل الشرار من أجل أن يخرج من الرماد الذي غطى روحه!!
إلا أنه مادام يأكل من خبز الموتى، فسوف يحجبه الموت عن النهر والنار والهواء، ويجعله تربة أشبه بتربة المقابر.
فليتحرر من خبز الموتى ويخرج من القبر الذي حفره لنفسه بيده.
القبر هو رحم أخرى للخروج إلى ولادة ثانية.
فتقول المجذوبة: ولادة واحدة تكفي. عذاب عمر واحد أرحم من عذاب عمرين. كل الذي أعرفه أن دار عارف محاطة بالمقبرة من جانبيها. فلذلك عنده الموت شأن عادي. لا انطلاقاً من قناعة إيمان بل من طول إلفة التذكير على مئذنة المسجد القريب من داره بالمتوفين ومواكب الجنازات التي غالباً ما تملأ الطريق إلى المقابر. لا ولادة أخرى ولا بطيخ. سافر مغامراً وعاد إلى أمان الأهل والوطن.
فتقول السيدة: لا ترى عيونك إلا الظاهر. أما عارف فيتعلق بكنه الأشياء وولادتها. وينوس ما بين زمنين (من أمريكا وعودته منها ممتلئاً معرفة وخبرة لزمن ماض كأنه بحيرة راكدة. لا تتحرك من مكانها، الصدمة التي تلقاها ليست صدمة الغرب بقدر ما هي صدمة العودة إلى الزمن الراكد. كيف يخلع جلد المهاجر لأعوام طويلة ويرتدي جلد المقيم يتنازعه زمنان. زمن مضى ومازال في الذاكرة للامتلاء بهواء جديد وزمن النزول إلى المدينة التي أحبها. فخروجه من القبر هو خروج لها. يحلم أن يزيح الصخرة عنه وعنها كالمسيح. هكذا هي المدينة هكذا هو جيله.
فقالت المجذوبة: فلماذا إذن أراد أن يشتري قبراً وراء البيت الذي نشأ فيه؟
السيدة: هي العودة إلى الرحم والحلم بولادة أخرى.
أنت لا تعرفين نفسية الذين هاجروا إلى وطن غير وطنهم كل يوم يحلمون بالعودة. هل قرأت عن موت جبران كيف أوصى بأن يعود جثمانه إلى الوطن؟ ما لم يستطعه حياً حققه بالموت، واشترى منفذو وصيته كنيسة مارسركيس الصغيرة حيث يرقد جثمانه مصبراً في صندوق زجاجي.
فتقول المجذوبة: ربما كنت على حق في هذه. لأن عارف في رسالة من رسائله من منفاه سأل والدي عن مدفن الزينبية إذا كان من الممكن أن يدفن فيه. فأجابه والدي أنه ملك للأوقاف وهو من الآثار التي لا يجوز عليها بيع ولا شراء.
السيدة: هؤلاء المهاجرون. ليست هجرتهم من أجل العيش، إنها نوع آخر من النفي. نوع آخر من الموت من أجل الولادة. إنهم يعانون صدمة هنا، ويعانون صدمة هناك. ولكنهم يحلمون بالخروج من الموت. زمن الموت يفضي إلى زمن الحياة. وزمن الحياة يفضي إلى زمن الموت. إنها دورة لا تقف عند طرف واحد، فالعودة إلى الطفولة بالنسبة لعارف هي بمنزلة إزاحة صخرة المنفى صخرة القبر والخروج إلى الحياة هذا ما تهمس به أضواء الشمعة الثانية. | |
|