أغلق عارف الدمشقي باب مكتبه على نفسه، وقال لزوجته "المجذوبة" بعد أن أقفل الباب جيداً: لا أريد أن يزعجني أحد..
لم ترتح لملامح وجهه وهيئته. أزعجتها نبرة صوته.. لقد اعتادت أن تنظر إلى فترة الكآبة عنده بعين التفاؤل. وتقول لنفسها: "كاسات معدودة! كل يشرب الماء الذي كتبه الله عليه. إنها مجذوبة إلى الحق، فعليها أن تجذبه إليه، وتنقذه من براثن الشيطان الذي حمله معه من الغرب". تهجس: "أنا سيدة الجذب وعلي أن أخرجه من جبّ الكآبة".
وفيما همّت لتخبر البنات أن لا يزعجن والدهن لأنه يدوّن يومياته في المكتب.
اشتمت رائحة دخان يتسرّب من شقوق الباب. عارف لا يدّخن. لكنه اعتاد أن يشعل شموعاً في المكتب بعد أن يسدل الستار يستحضر إلهام الكتابة. أربع عشرة شمعة، سبع بسبع على شكل هلال.
ربما نسي أن يضع الشموع في المكان المناسب، فولعت حريقة، والباب مقفل عليه من الداخل. لكنها نظرت من خلف النافذة فرأت بقدر ما تسمح شقوق الستائر أنه يحرق أوراقاً، وعلى وجهه أمارة من يتخلص من عبءٍ مضنٍ. وإلى جانبه "ألبوم" صور الأسرة، زفافها منه، وصور حفلة العرس، وأعياد ميلاد البنات وسيرته الخاصة، وصور أصحابه ومن لهم في نفسه مكانة خاصة من أبناء حيّه القديم.
حاولت أن تقنعه بأن يفتح لها الباب، لكنها لم تفلح، واستولت عليها فكرة سوداء تملّكتها، بكاء البنات زاد من توترها. فكسرت بكرسي خشبي صغير بلور النافذة خيفة أن يختنق عارف من تلبّد الدخان الذي تكاثف في الغرفة إلى درجة لا تطاق.. إلاَّ أن اللهب استمر والحريقة التي يشبها عارف في أوراقه وفي صوره ما تزال والعة.
لم تفارقها الهيلة، فوبيا الفكرة السوداء، أنه لابد محترق بالنار التي يشعلها، أو مختنق بالدخان الذي يتصاعد منها في جو غرفة المكتب المحصور. والشق الذي أحدثه الكسر لا يكفي فصرخت: يا ويلي سأصبح أرملة، والبنات يتامى وهنّ في نضارة العمر.
انخطفت إلى بيت صديقتها المجاور. اعتادت أن تسميها سيّدة الفنتازيا وتنعتها تلك بسيدة الجذب.
دكتورة بعلم النفس، متحمسة لكارل يونغ ونظرية تفسير الأحلام عنده.. صرخت المجذوبة وهي تطرق باب جارتها: يا دكتورة: إنه يحرق نفسه في المكتب بعد أن أوصد عليه الباب.
أسرعت سيدة الفنتازيا إلى جارتها سيدة الجذب، واقتحمتا باب المكتب على عارف، فابتسم بكل هدوء، وتوقف عن عملية إحراق الأوراق وفتح الستائر ثم أرجع ما تناثر من أوراق وصور إلى ملفاتها ومكانها من رف المكتبة.
عارف يؤمن بسيدة الجذب لأنها تصله ببراءة الطفولة، ويرتاح لسيدة الفنتازيا ورؤيتها التي تخترق حجب النفس.
وعلى السيدتين الآن أن تخرجا عارف من دخان هذه الأزمة المفاجئة، عليهما أن تكسرا جليد الصمت، بعد أن تستدرجه سيدة الفنتازيا إلى البوح بخبايا نفسه وأن ترده سيدة الجذب إلى براءة الطفولة.
يريد أن يتخفف بالنار من عبء ماضيه، يريد أن يحرقه، ويريد أن يتطهر بالحريق ويعانق الكون.
وبينما كان عارف مشغولاً في إيجاد المكان المناسب على رف المكتبة لألبوم الصور، تسأل المجذوبة سيدة الفنتازيا:
ـ ألا يأتيه الإلهام بغير هذه الشموع المضيئة؟!
ـ نعم يأتيه، لكنه لا يأتي في مطلق الحال!! لابد لـه من طقس لكي يستحضره.
ـ ولماذا يشعل أربع عشرة شمعة، لا اثنتي عشرة أو عشراً أو سبعاً؟!
ـ أربع عشرة تدل على دورة عشتار القمريّة، الأيام التي يتخذها الهلال ليصبح بدراً!
ـ هل الإلهام عنده يصل بالدورة القمرية لعشتار، يستحضره من محاقه على أشكاله الجنينية. أهلة متوالية كجنين ينمو حتى يصير صورة كاملة.
ـ والله الجنون فنون.
ـ طقوس الكتابة عنده، كما يبدو، كطقوس الحمل. لا ليفرغ عبئاً بل ليؤدي ولادة!!
ـ وما الذي كان يحرقه إذن، هل كان يلقم أطفاله الذين ولدوا من قبل النار؟
ـ ربما كانت ولادة مشوهة، يريد أن يتخلص منها، أو يتحرر. أو شيء يخجل منه أو يخاف من سلطة المجتمع، الأخلاق، الدولة.
ـ هل يحرق أوراقه ليتحرر من الخوف، أم يتحرر من الخوف فيحرق أوراقه؟!
ـ الحرية أولاً.. لكن الأوراق الموشومة بالحبر نقوش في الذاكرة.. ربما تحتاج إلى النار لكي تمحى!!
ـ الكتابة حرية. نعم ولكن، إذا امحّت على الورق فمن يمحوها من الذاكرة؟!
لماذا يستبدل النار بالكتابة؟!
الكتابة ولادة لا تحتاج إلى نار.
ـ زيني لـه البوح، اخلقي لـه طقوس الأبجدية. برج العذراء الترابي برجه يحتاج إلى ماء، برجك السرطاني يشربه ليستحيل إلى عجينة خلق.
تربة تخرج منها انفجارات ربيعية!
ـ إنها فنتازيا الوهم يا ست.
ـ الحياة حلم ناقص يحتاج منا أن نكمله، وإلا انقلب إلى كابوس.
ـ جئتم بهذا الشيطان من أوربا. الحياة انسجام وعبادة. الله أكبر على هذا الشيطان!!
فضحكت سيدة الفنتازيا قائلة: حوليه من توتره الشيطاني إلى الجذب. هذا سرّك يا مجذوبة.
تظن سيدة الجذب أنه يحرق أوراقاً سياسيةً قديمةً تجرّ عليه مسؤوليات إذا ما اكتشفت.
وتحسب سيدة الفنتازيا أنه يحرق رسائل علاقات غرامية عتيقة، لكي لا يجرح مشاعر زوجته ويؤذيه. وقد تستدعي عليه استنكار المجتمع أو الدولة أو الأخلاق.
المهم أن الدخان وجد منافذ إلى خارج الغرفة، وأن الهواء النقي حل محل الجو الخانق بعد فتح الشبابيك والأبواب.
تساءلت سيدة الفنتازيا: لماذا يود أن يحرق أوراقه القديمة حسب ما زعمته المجذوبة..
كل شيء مضى وفات. وما من سلطة تستطيع أن تحاسبه على تاريخ دالت دولته.
حين انتهى من ترتيب بعض الأوراق وإعادة ألبوم الصور إلى مكانه قالت لـه المجذوبة: بدّك تموّتني.
ذهبت لتغلي فنجان قهوة. فقال للسيدة وهو يتناول كاميرا أنيقة عن المكتبة:
دعيني آخذ لك صورة بهذه المناسبة. هذه الكاميرا لها تاريخ.
لاحظت سيدة الفنتازيا على طرف الطاولة مخطوطة مرتبة بعناية منزوع منها بضع أوراق، ويهيمن على زاوية من زوايا جلدها شحّار، كأنما أحرق طرفها لكن النار لم تصل إلى جسدها!!
ولاحظت أن عارفاً حاول أن يغطيها، أو يخفيها عن العين!! إلا أنها تمكنت من أن تقرأ عنواناً نافراً واضحاً: "أوراق عارف الدمشقي" وبينما كان عارف يأخذ صورتها، لم يكن واضحاً لها، أ أراد عارف أن يحرق هذه المخطوطة، أو قسماً منها! ولماذا؟.. أ أراد أن يحرق الألبوم ولماذا.. أم أنه أراد أن يحرق أوراقاً سرية منها، أو رسائل غرامية وإن لم يرد أن يحرق المخطوطة فما سر طرفها الذي أصابه شحار الاحتراق.
انصرفت سيدة الفنتازيا من بيت عارف وهي تهجس بالصفحات المحروقة والمنزوعة من المخطوطة. وفي اليوم التالي جاءت سيدة الفنتازيا بصينية نحاس لعارف عليها أربعة عشر حجراً يسمونها "الزهرة" في بلاد الرافدين (وهو أحد أسماء عشتار)، وقدمتها إلى عارف والمجذوبة وقالت:
هذه الصينية تشاكل صينية الشموع. كل حجر لـه شمعة، أو كل شمعة لها حجر.. الأربعة عشر حجراً مجتمعة تشكل الجسد القديم، وليتشكل الجسد الجديد، لابد لنا من أن نطرح الجسد القديم، كالحية التي تطرح ثوبها لتتجدد كحبة القمح التي تطرح قشرتها لتصير سنبلة مكتنزة.
إنها لك وللمجذوبة كي تتجدد حياتكما وحبّكما، وتطرحا الثوب البالي وتلبسا ثوب الطبيعة والحبّ.
أخذ عارف الصينية ووضعها بجوار صينية الشموع وقال: الآن تكافأنا، صينيتك هذه تؤنس صينيتي، كلاهما يتصل بدورة القمر.. ولادة الإلهام. الشجرة التي لا تطرح يباسها، لا تليق بتجدد الربيع.
فأجابت سيدة الفنتازيا: نبحر في موج الغربة يا عارف، وبقدر ما نتوغل في الماء، نعود إلى الرحم، إلى التربة الأولى التي نبت منها شعورنا وخيالنا واكتشافاتنا الأولى وتكونت صورتها في دفء الأرض. الهلال ينمو أهلّة ليصير قمراً، والقمر يرتد من جديد إلى المحاق ليصير أهلة جديدة تحلم أن تصير دورة كاملة.
فقال كأنما يهمس لنفسه:
أمضيت في المنفى أكثر من عشرين عاماً صارت فيها أهلتي أقماراً مضيئة لكن عتمة الرحم ظلت تشدني إلى أرض الطفولة.
أخذت فروة رأسي تنقلب إلى غراب أشهب. لم تكن المرآة في كل صباح حين أحلق ذقني غير صديق آخر، يخاطبني بما أحب، وبلسان الرضى.
وذات صباح تنبهت فجأة أن رأسي غير رأسي، وشعري غير شعري، كنت مشغولاً بالصراع من أجل البقاء، حملتني الأهلة إلى عتمة أخرى أحق بالضوء من عتمة الغربة.
فقالت سيدة الفنتازيا: تسترده إلى عالم اليقظة وتتوجس مدى تصميمه وإرادته. تدرك أن العودة إلى الرحم ضرب آخر من الموت. فقال: ولكنه موت يؤدي إلى ولادة أخرى، أما هناك في المنفى، فقد كنت أموت الموت تلو الموت دون أن أحلم بالقيامة.
فأجابت بلهجة صارمة: كل شيء يتآمر ضدك في العالم الثالث: الأسرة، المجتمع، الدولة. إنها جميعاً تشدك إلى الطين.
المعرفة جزاؤها دائماً أن تصلب على صخرة لتقتات جوارح الطير من كبدك. تقتل ما في رأسك من خيال، وما في قلبك من نبض، لتولد من جديد للعذاب والموت. العبودية هي المطلوبة، الخبز للعائلة، والسخرة للكبار الجوارح. والخدمات القسرية للدولة، والطاعة العمياء للمجتمع، هل أنت مستعد بعد أن تعمّدت بنار الوعي لميتات من هذا النوع؟!.
فقال: أن يشارك المرء في قرار حياته وموته خير من أن يحتكر الآخرون هذا القرار، ميت هنا وميت هناك، لكن الاحتراق بالوعي ولادة أخرى لابد من الملحمة مع النار التي تختبئ في ملايين الصدور دون أن تجرؤ أن تصير برقاً واحداً صاعقاً.
فأجابت: أن تعود إلى هذا الإيمان الذي قذف بك بداءة إلى أرض الغربة، من يخزن البروق في الجبال، يصير أيوباً على عكازتين في هذا الجزء من العالم.
إنك تؤمن بالآخر عبثاً. انج بجلدك ألم تتعلم؟! ليست أحزابنا خيراً من مجتمعاتنا وأسرنا وحكوماتنا. إنها من العجينة نفسها التي تقدم خبز الاضطهاد الخفي والموت. بل إنها في فترات الطوارئ أسوأ وأشد نكالاً.
قلْ من قتل السيّاب رفيقك، ومن قتل تمّوز وأجلس الخنزير البري على السدة؟!
تريد أن تصارع التنين؟! حسناً فإنك أول صرعاه لا بما يلتف عليك من أذرعته الجهنمية، بل من الأذرعة الأخرى التي تطعنك من الخلف وتشدك إلى الهاوية، ليبقى على السدة من يغذي التنين بك وبالحالمين بتخزين البروق في رؤوس الجبال، دون أن يفض عنها ختمها الرجال.
فقال بإصرار: الحلم هو الذي يكتنز هذا البرق، هو الفجر الخبيء في الجانب الآخر من الليل. سوف نغمر التنين بالتضحية تلو التضحية، حتى نخمد شهوة القتل بتعبئة الروح التي يتقمصها البرق، فتقول من يمارس التسلط عليك وعليّ؟! إنه ساكن فيك كالطفيليات التي تعربش على السنديان وفيما يمارس المجتمع تسلطه عليك ممارسة تقليدية رحيمة فيها شيء من الألفة والشعور بالواجب تتخذك القوى الوصولية مطية لأغراض قياداتها ثم تبصقك دون رحمة.
وإذا كان الانتخاب موجوداً في المجتمع والدولة وإن كان شكلياً، إلا أنه في الأحزاب خرافة، وتطبيقات وتصفيقات وصراع على السلطة واغتيال للشخصية. هذا إذا كان مسموحاً به. فالمصلحة العامة تتطلب أن يكون الانتخاب في الأحزاب حقاً مؤجلاً. بل إن التصفيات الجسدية في الحزب الواحد أقسى وأوجع من التصفيات بين الأحزاب وأشد إيلاماً. فهي أشبه بسلسلة من الاصطدامات على الـ Free way الطريق السريع، لا يمكن التحكم بها، إذا قيست بالاصطدام الواحد بين حزب وحزب.
عادت المجذوبة وبيدها صينية عليها فنجانا قهوة، وكأس ليمونادة وقطعت حديثهما قائلة:
ـ حضّرت لك كأس ليمون حتى تروّق دمّك. القهوة تنبّه أعصابك وأنت بحاجة إلى الراحة. خذ واشرب على نية الشفاء.
فقالت سيدة الفنتازيا بين المداعبة والجد: إنها تعرف مسّك اكثر مني لقرب الوسادة. فانفرجت شفتا عارف عن ابتسامة وقال:
ليست أقل فاعلية من وسادتك الخفية.
جلسوا جميعاً يشربون كؤوسهم يرين عليهم الصمت الذي لم يعجب المجذوبة.. فقال:
كانت أصواتكما تلعلع في المكتب وأنا أحضّر القهوة في المطبخ. فما بالكما الآن صامتين كاليتامى؟! هل تخفون عني سراً؟ أنا أولى بمعرفته. وتوجهت لسيدة الفنتازيا قائلة:
جبناكِ يا ست حتى تخففي عنه.. هاهو يعود إلى الصفن والصمت ويحملق في الفراغ من جديد.
استأذنت سيدة الفنتازيا وهمت بالانصراف، فرافقتها المجذوبة إلى باب الدار. وبينما تودعها وهي تقبلها، قالت لها المجذوبة:
كُرمى لله لا تتركيني وحدي. أرأيته كيف يحدق في الفضاء.
فقالت سيدة الفنتازيا: لا تخافي، لا تقمعي فيه انتفاض الذاكرة والحلم. حين تغدر به الحياة، لا يرى خيراً منهما ملجأ. ودعتها وهي تقول:
أنت الحلم الذي يعود به إلى تلك الذاكرة. أنت الطفولة التي غيبتها السنون عن عينيه، ودعتها وأغلقت الباب وانصرفت إلى أعمالها المنزلية.
حين تركتاه في المكتب وحده تناول عارف ألبوم الصور، فتحه صدفة على صورة تركت على شفتيه ابتسامة متألقة. هاهو عارف الطفل على حصان خلف صديقه راشد يسبّحونه في النهر من الاتجاه المعاكس. وعلى وجوههم قطرات الفرح والماء.
كيف تمحي المسافات بطرفة عين، ويبطل الزمن وتزول حواجز الوقت. تبقى النفس مرآة صافية واحدة لا تشعرها الأيام والساعات والدقائق، ما يزال النهر جارياً طرياً كما كان في الأمس، فكيف تيبست رؤياه على صخور الطريق، ووقف النهر متردداً كأنه لا يعرف مجراه.
أو كأن الماء الذي فيه نسي عادة الجري بين ضفتيه.
غير أن قطرات الماء والفرح الذي ينبض في عينيه في الصورة. وتشبثه براشد وهما على الحصان. أشعل فيه فتيل الذاكرة، وأيقظ ارتعاشات حلم كان يظن أنه مات.
النهر الذي تشرف عليه المدارس التي تعلم فيها عارف ما يزال يجري في الذاكرة. فهو يريد من بردى أن يجري كخيط من الزمرد بين خواصر الصخور من سفح قاسيون قد تأكل النار ورق الذاكرة. ووشم الحلم. لكن خيل إليه أن النهر ما يزال يجري في عموده الفقري، ونخاعه الشوكي. فهل للنار أن تأكل الماء في حياته؟!
إنه زمن الطفولة والحلم الذي ضاع في شجرة عارف اليابسة التي خيل إليه أنها استحالت إلى تابوت فلذا هي تستحق المحرقة؟!
كان يتصور دائماً أنه يستطيع أن يطير. يمتطي حصان النهر ويطير بلا أجنحة!!
يصير نهراً سابحاً في الفضاء كدرب التبانة أو المجرات الأخرى المتألقة.
كان الأطفال يشربون من النهر إذا عطشوا، يستحمون فيه نقياً جارياً أما اليوم فهو جثة هامدة من طين.
ماذا تستطيع سيدة الفنتازيا أن تعمل لهذا النهر الذي توقف في الذاكرة. وانقطع يابساً على صخور قاسيون؟!
كان يحسب أن الذاكرة صندوق فرغته أيدي النسيان مما فيه، ويحسب أن الرجل فيه الآن قد أجهز على الطفل الذي كان، هذا الطفل الذي لا يزوره إلا في أحلام النور، أو أحلام اليقظة. ولكه سرعان ما يختفي متوارياً أمام هموم الحياة المتزاحمة، ومشاغلها العديدة، ينسحب أمام الرجل الذي هو الآن.. فيهمس بصوت مسموع: كم كنت مخطئاً في حسباني هذا. هاهي الذاكرة تتفتح أبوابها عن رحاب الطفولة، ومسارح الماضي، حتى أدق التفاصيل التي كنت أظنها زالت واندرست، تعود حية من جديد، كأنما أخذت عقاراً ينقلني مرة واحدة من عالم إلى عالم، ورجعت أدراجي إلى ما كنت عليه، طفل يركض في شوارع المدينة يتحسس العالم بقدميه ويديه ووجهه، قبل أن يهرب منه، يريد منه أن يصير جسداً، يريد أن يجسد الزمن، أن يعطيه معنى، أن لا يكون أياماً متساوية ورتيبة كأسنان المشط.
هناك يوم لليأس ويوم للأمل ويوم للفرح والتكوين، ويوم لاكتشاف العالم، ويوم لاكتشاف الموت في تقويم الجسد الواحد.
الإنسان نبتة تخرج من باطن الرحم إلى الشمس، بذرة تُزرع فيها، تتكون خلقاً ذا عظم ولحم وعصب.
يتوقت بالنبض، يدق، يدق، يدق حتى يتلاشى ويذهب إلى ملأ المجهول.
الناس كالشجر، الإنسان شجرة، لها فصول، ينتظمها خط الولادة والحياة والموت.
شجرة تتنوع هيأتها بتنوع الفصول. في الشتاء هيكل عار يصلي مع الطبيعة، وفي الربيع عروس كاسية تتبرج وتعانق الريح، وفي الصيف تنضج للقطاف. في الخريف تتهيأ شجرة الإنسان للموت، لكنها تهرّ ورقة ورقة، ويحل الاصفرار محل الخضرة، وتصير جذعاً يابساً. يؤخذ ويطمر في الأرض على أمل أن يقوم من رحم.
إنسان الأرض نبتة جديدة تطمح أن تكون غابة. وقيامة أخرى تعصف بها ريح الموت.
تضيء في ذاكرته طريق تشق البساتين المحيطة بحيه إلى المدينة، تختصر الزمن من الضاحية إلى المدينة، يدب عليها الإنسان كما تدب السحالي في ظلال جدران الطين، وظلال الأشجار التي تحمي المارة من عين الشمس المحرقة في الصيف.
السحلية هذا المخلوق الضئيل الصغير الذي يزحف بقوائمه التي تشبه أيدياً من اللحم مصغرة بفمها ووجهها المتطاول الذي يشبه وجوه الأشباح، ولسانها ينبض من فمها بسرعة البرق ليدل على أنها حية مذعورة من الإنسان الذي يدوسها بقدميه، كما يدوسه القدر، ربما كانت على ما يقول علماء الإنسان هي مصغر الديناصور الذي عاش قبل ملايين السنين وانقرض إلى سحلية.
السحلية بلغة الأطفال في حيّه لم تكن في طفولته الأولى اكثر من صندوق للموت، تابوت، نعش يركن في عتمة مدخل جامع أبي النور. أما السحلية الصغيرة كحيوان زاحف، فهي جسد زاحف صندوق للحياة مؤقت. تركض بين الخطى لتنجو من أن تسحقها الأقدام، السحلية التي ما تزال ماثلة في خياله، لم تكن سحلية راكضة زاحفة، كانت سحلية أخرى تقبع على سقالة من خشب، فراغ من المكان في مدخل جامع أبي النور، كما يقبع في صندوق الذاكرة، الذي يفتحه الآن زمن الطفولة فيخرج منه الطفل، ويركض من المسجد إلى الجبل والنهر، من المسجد إلى البساتين المحيطة التي يشقها طريق ترابي إلى المدينة وشوارعها المزفتة والنظيفة.
تابوت الموتى الخشبي الذي يقبع في الذاكرة، كما تقبع السحلية في حيز الفراغ المذكور، شكلها المعيني المتطاول بحجم قامة الإنسان يبدو ضيقاً في الأطراف ويتسع وصولاً إلى الوسط ثم يضيق حتى يكاد يكون شطرين من بيت شعري قديم يرقد فيه معنى الموت.
الأطفال في حيه يطلقون لفظة السحلية على تابوت الموتى، إنها هناك يؤنس صمتها خرير مياه مطاهر جامع أبي النور الجارية، وتلفها رائحة الغائط، كما تلف ريح السموم واحة هاجعة.
هذا التابوت الذي يستخدمه الناس لنقل موتاهم من دار الدنيا إلى دار الآخرة. هو أشبه شكلاً بسحلية تزحف على أكتاف المشيعين في جنازة الموت من دار الشقاء إلى دار البقاء، وتلقي بالموتى على عجل في عتمة القبر، عتبة الزمن الآخر.
التابوت كان لعبته. كان يلعب الطميمة هو وراشد فتخبأ في التابوت.
جاء أبو راشد يبحث عن ابنه فلم يجده، بل وجد عارفاً مختبئاً في النعش فأخرجه منه فهرب من السحلية هذه الآلة الحدباء التي يذكرها محفوظنا القديم من الشعر:
كل ابن أنثى وإن طالت سلامته
يوماً على آلةٍ حدباء محمول!!
ليس للشجرة إذا يبست غير النار، وما للإنسان إذا يبس غير التابوت.
يبدو أنه بعد العودة من المنفى لا يفكر بغير الحرائق والموت.
في زمن الطفولة كان الموت أكثر رومانسية ربما لأنه كان يسكن في جوار المقبرة. فالقبور وشواهدها وأنواعها شكلاً وأحجاراً وتراباً، كانت أشياء أليفة إلى عينيه.
القبر، يقول عارف، من حيث الشكل هو مهد مقلوب على وجهه. والقبور المحدودبة بحدباتها الترابية كأنها زوارق مقلوبة، تبحر في التراب وهي واقفة بشواهدها لبيضاء الأشبه بالأشرعة، والقبور المستطيلة بأطرافها من الحجر المنحوت اللماع أحياناً، وقلبها من التراب تبدو شواهدها أكثر طولاً من القبور المحدودبة، كما أنها أشبه بالأحواض إن قلبها الترابي مسرح لنمو الأعشاب البرية، وبعض الأزهار الزكية، ولاسيما في فصل الربيع، بعد أن تكون قد تشبعت بالمطر، وهي أكثر أنساً للموتى في داخل التربة وأكثر فائدة لعارف وأترابه الأطفال من القبور المحدودبات.
كثيراً ما كانوا يستخدمونها كمصاطب يجلسون عليها في شهر رمضان. ينتظرون أن يضرب المدفع، علامة وقت الإفطار في الشهر الكريم.
ويمزح عارف قائلاً:
في الليالي المقمرة نسهر في أمان، ربما كان الموتى يسترقون السمع ويندهشون لعالم الأطفال المليء بالفضول والرعب والقسوة وأسرار الجنس وتفتّحه الفطري في وردة الجسد. إلا أنهم لم يحتجوا على عبث الأطفال ولم ينزعجوا وتركوهم بحالهم كما كان الأطفال يتركون الموتى بحالهم. حين كان المدفع يعلن بقصفه ساعة الإفطار، كان عارف وأترابه يهرعون إلى بيوتهم كالحمام الذي فاجأته بندقية الصياد بإطلاق الرصاص، وما هي إلا ساعة أو بعض الساعة حتى يعودوا إلى مجالسهم على مصاطب القبور، إذا أرخى الليل سدوله وطلعت صبايا النجوم في وهلة الدجى، والقمر يرقبها كعاشق ولهان امتقع وجهه!!
في الأعياد دغشة الفجر، بعد انتهاء الوقفة وبداية أول يوم العيد يستيقظ عارف وأخوته على النواح والبكاء والولاويل وكلمات النواح والبكاء والرثاء، تملأ الجو من الزوار الذين مات أعزاؤهم من أمد قريب. لقد ألف عارف وذووه موكب الجنازة والعويل حتى إنهم لم يكونوا يشكون منه، بل إن العيد كان موسماً لكسب بعض القروش، فكثيراً ما كان عارف وأخوته يخرجون مبكرين صباح العيد إلى القبور، كل يحمل القرآن الكريم ليقدم لزوار المقابر خدمات قراءة السُوَر على روح الموتى بقروش معدودة.
يقول عارف: كنا نهتف ونحن نتجول في المقابر:
يا أرحم الراحمين
يا رب عفوك ورضاك
فيستشعر الزوار فيهم ويطلبون منهم أن يقوموا بقراءة سورة أو قسماً من سورة طلباً للرحمة على روح الميت.
كان بعضهم يخصص طلبه ويسمي السورة، إلا أن كثيراً منهم كان يترك اختيار السورة لهم، وكانت السورة المفضلة لديهم سورة (الرحمن، خلق الإنسان علمه البيان( فهي أقرب إلى التجويد منها إلى القراءة، ولاسيما لازمتها التي تتكرر (بأي آلاء ربكما تكذبان( وموسيقاها الثرية.
حين يتذكر عارف الأيام الخالية الآن، فكأنما هو يتكلم في النوم، البارحة كان ما كان واليوم صار ما صار، لكن كيف عادت السحلية إليه بعد أن غابت في فراغ العتمة؟!
ها إنه يفتح غطاءها بصعوبة ويتوجس خشية من صريره، وكأنه يفتح باباً لقصر أشباح مجهول في قصص ألف ليلة وليلة، أو أفلام هوليود وريثتها غير الشرعية.
يدخل عارف قصر الأشباح هذا، الأشباح التي تنبعث من الذاكرة كما انبعث فيه الطفل من الرجل، وكأنما أيقظ الطفل الذي هو هو، يقيم الجثة الراقدة في سحلية الزمن من نومها الذي يشبه الموت، ويأخذ بيده إلى عالم طواه عالم آخر، ظنه قد مات ولكنه حي كالنبض الكامن في الأعماق.
حتى لفظة التا.. بو.. ت تتطاول كما تتطاول السحلية، أين منها كلمة النعش، كان يتخيل أن النعش زورق يبحر في النهر، هو مفتاح ذاكرته كيف يمكن أن يعود جارياً كما كان؟